جرائم المشاعر
للكاتب/ تـامـر التـويـج
المشاعر هي التركيبة التي تعطي الإنسان مظهرًا مُعينًا، وملامح واضحة، وهذه التركيبة تعرضهُ للآخرين، وتعكس تفاصيل وجوده، وتترك انطباع لدى طرف إنساني آخر، بحيث يشعر به من خلال أحكامه ونظراته وأقسامه وعواطفه وآهاته وألوانه، بالطريقة الكافية لدفعه نحو الاستمرار في رصد مشاعره للتصور والتطور الذي يساعده على البقاء في تشكيل العلاقات الغيرية، والاستجابة للمحيطات الحيثية في واقعه المعيشي، واندماجه لحياته ومعاشه في الظروف المصاحبة لمسيرته العمرية؛ من أجل تكوين قرار أولي ومشاعري يحقق به حاجته ويصل إلى غايته، بالكيفية التي تجعله راضيًا عن حركته وحياته، وتجديفه وإبحاره، في يبسه وشاطئه.
الإنسان إن الإنسان في مفهومه الواسع، وعلوه الرافع، وأصله وكعبه النافع للطبيعة، ليس إلا تركيبة من المشاعر التي تشكل واقعه، وتصنع جامعه، في البحث عن التحديث لروحه، والقصد والتشريف لذاته المغمورة، وأناهُ العزيزة في شموله المنطقي؛ لفهم منطقه في التفسير، والانجذاب نحو الآخر، والخيال في مدلولاته نحو تحقيق مرام حياته، بكل ما يلفظ أو يقول، حتى يحول بينه وبين ما سعى له، أن يضع يده على قلبه، ويشرع في بناء أمله، وركوب جمله، دون النظر لكلمات الأمل، أو اليأس والملل.
أخطاء التعبيرحتمًا وأن الوعي وفهم الإنسان لذاته، يجعله قادرًا على إبداء السلوك الأمثل في مشواره، ولكنه الإنسان ذاته، سينصدم بذات الإنسان الذي يبحث عن سعادته مثل ما يبحث ذاك عن اكتشاف براعته، وما المانع، أن يكون التنافس جميلًا، ويُنظر للخسارة على أنها إثارة.
ولكن الإنسان خلق عجولا! وعلى هامش العجلة ربما كان إيصال الشعور هو النقطة البارزة لكي يحقق كل إنسانٍ هدفه، فمن لا يستطيع الصمود أمام كلمة، لا يعني أنه ضعيف، بل لأن العاطفة غلبت قريحة شخصيته، ومهما تعود على الصمت إلا أنه يبقى حبيس التفاعل المشاعري، والرصد الإحساسي الصعب المنال، فكلمة السر تتطلب منك البوح الجميل، ودون أن تتردد ويكون تعبيرك خاطئ، فابدأ وكن على استعداد، فالبشر مثل كلمات السر، إن لم تعرفها، فلا تحاول تهكيرها، حتى تكون أسعد الناس باختراق شخصياتهم، دون معرفة طبائعهم، فيكون الجميع في يديك وتحت جبروت قبضتك وسلطانك.
لأننا أفضل وأجمل وهم بوحشية الجثة الهامدة لا يحركها رغبة ولا حاجه ولا يغلفها ضمير أو حرير، فمهما توقفنا مع أنفسنا واكتفينا بما علينا لكن أهون لنا، فقد نظن أننا قـدِّ انتهينا، وأنه لا يجب أن نتعلم كل ذلك ونجعله صوب أدمغتنا، ومَن مِن الناس ناحت مشاعرهم وذابت، وتركت مقابل ذلك أحاسيسهم لتدفن في البؤس، فمهما ابتعدت عن أي تجربة عاطفية وإنسانية تخلق لك السعادة، وتوافق عقلك وقلبك، دون المعاناة، والوقوع كشبحٍ يخاف مما يقول.
المشاعر بين العواطف والأحاسيس المشاعر هي قراءة ذهنية للجمود، والحركة، والانفعال، والتجربة، بحيث تعكس مشاعرنا مجموعة العواطف والأحاسيس.
والمشاعر لا تأتِ فجأة أو بغتة؛ إنما هي حصيلة الإجراءات من تميزها وتدركها الحواس للفؤاد والقلب.
فالمشاعر هي الفعل، وردة الفعل تكمن في العاطفة نحوها، فلو تم التعبير بكلمة، (أحبك، أكرهك، أنت أناني، أنت خائن، غبي، ذكي، جميل) فلا بد حينها من ردة فعل عاطفية، وهلم جرا، فأي كلمة سأقولها، ستُنتج موقفًا عاطفيًا، سواء كان فرح أو حزن، غضب أو سرور، أمل أو خوف ــ ربما كان لنظرة الإعجاب دور كبير في تصريف الأمور التي كانت سببًا في نقص تقديرك لذاتك، ولكن تلك النظرات لن تكون مفيدة في كل مرة، وحتى تعطيك كل شيء؛ لا بد أن تضمحل ويختفِ بريقها في ميدان القلب، وساحة الفؤاد، وحالة جمودهما المبالغ بها، فمها كان النضج العاطفي كبيرًا، إلا أن المشاعر لا تعرف فلان ولا علان، ولا تفرق بين فؤادٍ وحسان، إلا رويدًا رويدا، بما كان لهم.
أثر المشاعر بين الوحي والكبت إن الحماس الذي يدفعك للبحث، قد يتوقف فجأة، إذا كان وقودك مشاعريًا، وليس ذاتيًا، وهذا لأنه مزيف، وسيعرضك لحالة ضعف، ويكشف ضعفك، الذي كان يتستر خلف الكلمات، فمن يعطيك سيبكي عليك حين يوليك القيمة، وسيطلق عليك ما تريد، ويُكنيّك بما تريد، بعدها كل من دعموك، سيرمون أنظارهم لغيرك، وتكون أنت من شيعت جثمان مشاعرك، ومن دفنها أنت فقط.
الذي يستند لنا في بداية درجة قراراتنا هو ما يجعلنا نقف في حيرة التمهل أو تناقضات التعجل المجنون.
وربما وجدت من يذبح غيره بكلمةٍ لا يُرى لها قعر ولا سافل، لا يقولها عاقل ولا ثامل، كلمة تزعزع الكيان وتبعثر الروح في شتات وفتات، فقد يجعلك مصدوم ومهموم، يتركك تتأرجح في نوفلٍ لجي، وعميق الأمواج، كأنّك تتخبط في معاناة عالم اللاشعور.
يكابد الإنسان مرارة الفقد الشعوري لما يطيب له خاطر، ويسعد له حاضر؛ ويبعد عنه السبات والهم، والألم والغم؛ لأنه قد يرتكب جريمة مشاعر كبيرة، تهدم كيان إنسان، وتبعثر كل ما كان، فالجريمة المشاعرية بحد ذاتها أكبر من أي جريمةٍ أخرى، فهي تتعلق بالقهر، وتولد التوتر الممتزج بشعور الهزيمة، فالانسجام والتوازن لا بد منهما للإنسان، حتى يستمر في الحياة.
إن جريمة المشاعر هي ناتجة عن ضعف الشخصية التي لا تعرف الوعي، ولمْ تصل لمرحلة النضج العاطفي والسلوكي، ففي الوقت الذي يدافع المجروح عن ذاته، ويستجمع قواه، يكون الجارح مفعم بروح الانتصار، الذي ساد به معركة القهر، وانتزع فيه بهجة ومهجة أحدهم، وهذا لأن موقفه كان أقوى.
من يقوم بالجريمة لا يمكن أن يضع لها أي حدود أو كوابح، ولكنه سيمارس سلطة القهر على الضحية التي ظلت أسيرة الكلمة والموقف، وهذا ليس إلا بسبب عدم وجود معرفة حقيقية بتعاملات الحياة، والبحث عن المصالح الشخصية التي تتعلق بالمشاعر، وبالمادة، وبالطبيعة وبيلوجية العاطفة المتقلبة، التي تهز البدن، وتنجم عن هزته، الهزول الي يصاحبه حال الشح العاطفي، والدفء المشاعري.
ألم تسأل نفسك يومًا! كيف يمكن لكلمةٍ واحدة أن تجعلك تفقد أي قريب من أقربائك، أو حبيب من أحبائك، أو صديق من أصدقائك، أو حتى تفقد قيمة كبيرة من روحك، تجعلك توقن بأنك لست أنت، ولست من يبحث عن ذاته.
وهذا كله بسبب كلمة لم يكن لها حساب في ضميرك، ولا عتاب في ذاتك، وقد تؤدي إلى نزاعٍ يطول جفائه التقاربي، وينتهي وده العاطفي.
فمهما كانت الردود عليك بعد اللامبالاة في جرح من شئت، لا يمكن أن يكون الرد على كلمتك دواء شافِ وحل كافِ، لأن تترك الجريمة مستمرة مع الزمان والمكان.
أتعلم لمــاذا؟
لأنّك قدّ لا تُفكر!
والآخرون يظلون يفكرون دومًا، فهم لم يتوقعوا منك ذلك، ولم يكن النسيان لآلامهم يشفيها، ولا التجاهل يرويها.
فإذا جرحت بشر السلاح، فابحث عن الفلاح، ليندمل الجرح، ومهما كنت قويًا، فلا تعامل أحدهم بقوتك، بل بنقاط ضعفك، وما تخشاه على نفسك، لا تضرب به الناس، وعامل كلًا بما يحب، وليس بما تحب.
أسطول المشاعر وسلطان الكلمة إن الكلمة التي تكون جارحة، وذو أبعاد متعددة، يمكنها أن تضع الكثير من اللوم على صاحبها، فقد يكون الشخص قريبا منك جدًا، ليس قريبا بالقياس ولا المسافات، ولكن قريبًا في العلاقات، فقد يكون أسوتك في حياتك، ورفيقك في دروبك، ومعلمك في دروسك، وأخاك في بيتك، وعضدك وماء وجهك بين القوم والأنام، وفي الثرى بين القيام.
وهل لسلطان الكلمة بما تحمل من قوة أن تستقر في مكان، لا أظن البتة، فهي كالمرساة التي ترمى في بحرٍ لا نهاية له.
وهذا لأن أسطولها متجدد وأنينها متعدد، ولا يمكن نسيانها.
الشخصيات القوية التي اعتادت على سلطان الكلمة، لا يمكن أن تتأثر بسير أسطولها، وهــذا؛ لأنّها عاشت في ظروف حرب أساطيل الكلمات الجارحة، وربما لأن كبريائها متجدد، ومُتقد، فقد لا ترضى أن ترى جثمان مشاعرها وتزيدهُ أذى، وكأن حالها يقول قد سمعت، فما قنعت، فليذهب القائل وما قال سُدى.
فمن لا يستطيع أن يتعامل مع النفس البشرية، لا يمكنه أن يعيش بسلام، فهي متجددة المعنى، ومتعددة الصورة، ومتشددة المذهب والكيان، فلو نظرنا للسذاجة من بعيد، ولو كانت من أقرب قريب، لا يمكننا أن نتخلص منها بسهولة؛ لأنَّ مَن يعتاد على الصبر، قـدَّ يصول ويجول، فيرد الصاع صاعين، وهذا بدون تكلّف، فنجد توزانًا في البيئات، والأحياء والمجتمعات؛ بسبب ردة الفعل التي تحدث ــ هـذا؛ لأن العبادات التعاملية لا نجد من يتقنها كثيرًا في أسلوب الحياة؛ لأنَّها تذبح النفس، وعندما تذبحها، تصيح ويعلو صُراخها، فتكون صريحةً بعد أن كانت جريحة، ولكن لو كان لكل أسطولٍ حدود، ما وصل الكبرياء حدّ السيف، والأجدر بنا أن نجعل المشاعر في سمو المظاهر الجليـّة، والعبادات العليـّة، ومن هنا لو قلنا أن أعظم العبادات هي العبادات التعاملية المشاعرية، التي فيها إحساس والتماس للروح البشرية، قبل النفس وجبروتها.
لن نطلب منكم أن تشدوا الأحزمة، وأنتم في أماكنكم، لتنزل الطير على رؤوسكم، فتلبثوا في سكونٍ وظنون، تظلون تبحثون، عمن جرحتم، ومن كنتم له تؤذون، ولن نضرب بالأمثلة ليتذكر كل واحد منا مَن جرح؟، ومن ذبح بأسطول كلمته؟، التي لا يُرى لها قعر ولا هاويةــ فقط ليبحث كل واحدٍ مِنا في ذاته، وفي حياته، مـا هي الكلمة التي لا يحب أحد سماعها مني، ومـا هي الجملة التي أؤذي بها ذاك أو تلك، لأجعل وأضرب بالسيف، وأترك حدًا كما لو كان صدًا في طريقي ؟
فالكلمة التي لا ترى فيها فائدة، لا تكررها؛ لأنَّها قدَّ تعود عليك بما لم تحسب، لأي شخصٍ كانت، ومهما ببالك هانت، وفي مُحيطك دانت لك، فقطفتها وفيها السُم الزعاف، لحظة من فظلك، ومن فظلكِ، هل فكرت وفكرتِ ، في من جرحت وجرحتِ، وأذيت وأذيتِ؟
حتى وإن كان لقبًا تدعو به أي أحد، وهو لا يرتاح له، ولا يُحب أن تدعوه به، فلا تدعوه به؛ لأن هذا بمثابة الظلم العظيم لـه كإنسان لا يستطيع أن يخبرك، وأنت مرة في النسيان، ومرة تدعوه بشر ما كان، فالألقاب في التنابز ظلم كبير، والله تعالى يقول: ( ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئـك هم الظلمون)،
حتى وإن رضى وكان قلبه بسيطا، فلا تكن أنت متسلطا عليه بتفكيرك الساذج، بل أشعر به، وناده باسمه، فكم لك من الجمال في قلبه، ومن الزيادة في تقديره وحبه، وكم تكون قد أغدقت عليه من المشاعر الطيبة، فكن إنسان يا إنسان.
✍🏻/ تـامـر التـويـج
تعليقات
إرسال تعليق