انشغال عميد الأدب طه حسين في نسب المتنبي

انشغال عميد الأدب طـه حسيـن بنسب أبي الطيب المتنبي 



للكاتب/ تامر التويج 

تدور عجلة هذه الدنيـا ولا تتوقف!، باحثةً عن الروح العظيمة في مكنون قيمة الإنسان البشري، الذي نفخ الله فيه من روحه، وعظمه وأعلا قيمته.

وهل لذلك الإنسان أن يشرع ويُقيم هدفه في ازدحام كل الهفوات في طريقٍ أصبح مُمتلئًا ببنات الدهر العقيمة، وبنات الفِكر العظيمة، وبنات الصدر التي جعلت من سرج الحِصان وبساط الريح موطنـًا؛ لأعظم إنسانٍ في عصره، وأعظم روحٍ شاعرية في تاريخ الأمة العربية.

نعـم! 

حديثنا عن المتنبي(أحمد بن الحسن الجعفي)، الذي شغل الناس وملأ الدنيا بفكره وعقله من الحكمة والشِعر، الذي كان به أعظم من يقول الشعر في تاريخ العرب.

ولكن عميد الأدب في العصر الحديث، الدكتور/ طـه حسين، لمْ يجد شيء يأخذهُ في نفسه على المتنبي غير أن يهتم في نسبه وأصله، ويُشغل نفسه بسؤالٍ دار في عقله واستوطن، ولم يكن له سوى دراسة كل شيء من أجل أن يقول جملته الساذجة في آخر المطاف،" لقدّ كنت أداعب المتنبي".

كان أهم سؤال حيّر طه حسين هو: لماذا لم يمدح المتنبي أباه...، ولماذا لم يفخر به، ويمدح عشيرته؟ 

هذا السؤال جعل طه حسين، أثناء سفره إلى فرنسا، لا يحمل سِوى ديوان المتنبي وكتبه الأخرى فقط، وكان يُشدد في ذلك، بألا يترك شيء في حقيبته سوى كتب المتنبي.

طه حسين لم يهاجم المتنبي فقط، وإنما هاجم وشكك في رجولة الشاعر الكبير بشار بن برد، والمفكر والشاعر الكبير/ أبو علاء المعري؛ ولكن فريسته الأولى التي كان يتلذذ في الخوض فيها هي اكتشاف نسب المتنبي، وأي شيء يشغله أكثر من ذلك...

لا نعرف ماذا يريد طه حسين من المتنبي، بالرغم من أن المتنبي جاء ما بعد صدر الإسلام وما بعد الجاهلية، نعـم! 

فطه حسين قد شكك في الأدب الجاهلي، وشكك في جميع شخصيات الشعراء الكبار في الجاهلية، وزعم أن الأدب الجاهلي كُتب في حقبةٍ لاحقه...!

وأن كل إرث تركه فحول الشعراء من العرب، كان مؤلفًا في زمنٍ غير زمانهم.

وهذا الأمر أنكره عليه معلمه كارلو ألفونسو نَالينُو، وهو المستشرق الإيطالي، الذي درس: «تاريخ علم الفلك عند العرب»، وأهتم بدراسـة«تاريخ الآداب العربية من الجاهلية حتى عصر بني أمية»، وأثبت الدكتور نالينو عظمة الأدب العربي، وأُعجب بمعظم الشعراء في الجاهلية، وحاول كثيرًا نُصح تلميذه طـه حسين، إلا أن الأخير رفض حُجج معلمه، وتمسك بعناده وكبريائه، وأبى أن يرجع في ما خاض، وفاض عن بنات عقله الذميمة، والعقيمة في شخصيةٍ عظيمة كأبي الطيب المتنبي، الذي تسيد كل وصف المادحين من العلماء، وحاز شعرهُ على معرفة وتفسير الشارحين ...


وبإمكاننا القول فقط، لعميد الأدب/ طه حسين، ولمن سار في نهجه، على مثل هذه الفجوة الواسعة، بل والأزمة الكبرى في تاريخه، ولا أظن أن هناك من تبعه، في سردابه هذا، وكان له سِندان كسندانه. 

عزيزي الدكتور/ طه حسين، لـم يكن المتنبي مهتمًا بمدح عشيرته ولا مهتمًا بهم وبأصولهم، بل عمل وكافح وناضل في صغره، ودرس العلوم وتعلم في سنٍ صغير جدًا، حيث نبغ وعُرف عنه قوة ذاكرته وطلاقة حفظه وسماته في الإدراك والتوقع والتنبؤ، وربما لكل تلك الصفات كان عليه أن يقول أول قصيدة له في عمر التاسعة، فبعد وفاة أبيه مرّ بظروف عيش قاسية، وذاق مرارة الحرمان والحاجة، فأجهد نفسه بالبحث عن الرزق، ولم يكن مهتمًا بسوى مدح من يستحق من الملوك، فهو شاعر الملوك الأول في زمانه، وهكذا تكسب بعض المال وبقي في جبروت الحياة، وطارقة حوادثها.

لن نكتب عن أصل تسميته بالمتنبي كثيرًا، وهذا الأمر قد حققتُ فيه كثيرًا، فوجدت قيمةً حقيقية تستحق الوقوف عليها؛ ولكن المقام لا يتسع لذكر ذلك في المقال، ولكن سأختصر نزرًا بما تم القطع به، وهو عما جاء به الإمام الثعالبي أن المتنبي سمي بذلك؛ لأنه يحكى أنه كان يتنبّأ في صباه عن نزول المطر أحيانا، والأمر الأهم منه ما ذكره العالم أبا الفتح المشهور بابن جنّي، الذي كان يقول عنه المتنبي:"ابن جني أعلم بشعري مني"، وذكر ابن جني أن المتنبي شبه نفسه بالأنبياء في تشبيه معين، وذلك بقوله: 

أنا في أمةٍ تداركها اللهُ 

غريبٌ كصالحٍ في ثمودِ 

ما مقامي بأرض نخلة إلا

كمقامِ المسيح بين اليهودِ 

وهذا هو الأقرب إلى الصحة في سبب تسميته بالمتنبي.

نسبه وأصله: 

يعود أصل المتنبي إلى مَذْحَج، ومَذْحَج هي قبيلة عربية كبيرة من القبائل العربية الكهلانية القحطانية وهي من أقدم وأعرق وأشهر القبائل في جزيرة العرب، ومن هنا يتضح لنا بأنه جعفي بن سعد العشيرة من مذحج من كهلان من قحطان.

ولكن طه حسين لم يتوصل لذلك إلا بعد رحلةٍ طويلة، بعد أن حاجّهُ تلميذهُ محمود محمد شاكر الأديب المصري الذي دافع عن العربية في مواجهة التغريب -  رحمه الله - والذي قال في كتابه «المتنبي»: أن المتنبي كان من أشراف العلويين، ولا يقل عنهم شأنًا أو موضعا.

وكيــف لا؟، فقد ولد في الكوفة وكان يتردد إلى الكُتاب وهو صبي مع أولاد أشراف الكوفة من العلويين، يتعلم دروس العلوية شعرًا ولُغةً وإعرابًا، فنشأ في مدارسهم الخاصة، التي لا يدخلها إلا أبناء العلويين، وهذا إن دلّ على شيء، فإنما يدلّ على الجاه، والحسب والنسب الكبير.

 ولا ننسى الكتاب الذي ألفه، الدكتور والأديب/عبد الغني يوسف الملاح، في الموصل، بعنوان:" المتنبي يسترد أباه"، والذي رد فيه على طه حسين وأمثاله، ومن سار على نهجه.

وعن عدم افتخاره بجدوده وذويه، فقد كان له ردًا في هذا، فقـال:

لا بقَوْمي شَرُفْتُ بل شَرُفُوا بي

وَبنَفْسِي فَخَرْتُ لا بجُدودِي

وبهمْ فَخْرُ كلّ مَنْ نَطَقَ الضّاد

وعَوْذُ الجاني وَغَوْثُ الطّريدِ


ألا يكفيك ذلك يا طه حسين، هل من الضروري أن يفخر بأبيه؟، وهل هو شرط أساسي حتى تعترف به، وتبعده عمن شككت بهم أن يمدح قبيلته وعشيرته، هاك أسمع واقرأ، لا يريد المتنبي أن يفخر بهم، وقد أجابك أنه لا يفتخر إلا بمن نطق الضاد، وهي كناية عن الفصاحة والرجاحة والبلاغة في اللغة العظيمة.


وهل عابك يا طه حسين أن المتنبي وضع أهدافًا أكبر مِن كل مَن يحلم، عندما قال: 

أُريدُ مِنْ زَمَني ذا أنْ يُبَلّغَني

مَا لَيسَ يبْلُغُهُ من نَفسِهِ الزّمَنُ

ما هذه القيمة، وهذا التمني، وهذه الأحلام...

المتنبي يريد شيئًا يصل إليه قبل زمانه، فيا لهذا الطموح العظيم، فقد صدقت يا أبا الطيب حينما قلت: وإذا كانت النفوس كبار تعبت في مرادها الأجسامُ .

وعندها ماذا، هل طاب لك أن تضحك يا طه حسين، وقد رد عليك بقوله: 

ومَن كان عزمي بين جنَبيهِ حثَّهُ

وخيَّلَ طول الأرضِ في عينه شِبرا


هل اكتفيت بذلك، فأنّي لا أراك إلا هالك، فقل لي مالَك وما بدا لك ...

عزم المتنبي لو كان بين جنبيك، جعلك ترى الأرض كلها شبرًا واحدًا، أرأيت لماذا لم ينشغل بمدح نسبه؟؛ لأن قيمته كبيرة وعظيمة، ولا يريد أن يفتخر بهم بكِبـر، ثم أليس هو القائل:

ليس الفتى من قال كان أبي

إن الفتى من قال ها أنا ذا ...

هكـذا كان شاعر الحكماء، وحكيم الشعراء، هكذا كان شاعر العرب والملوك، هكذا كان شاعر الفلسفة.


وماذا بعـد:

ألم يستحِ طه حسين من الأبيات التي قالها المتنبي والقصائد، يبدو أنه وقع أسيرًا لشخصية المتنبي، فأحب أن يُحدث بلبلةً واسعة، حتى يقول الناس والأنام، بأنه شكك في أصول المتنبي، واكتشف فيه ما لم يكتشفه غيره، على رغم أنه كان كفيف، ومن كان يقرأ له، هي زوجته سوزان، بعد أن تزوجها في فرنسا...

رحمة الله على الشاعر محمود درويش، الذي اعترف أن كل الذي أراد قوله، شعرًا، سبقه إليه المتنبي، بنصف بيت: على قلق كأن الريح تحتي!

فقد أدهش أبو الطيب المتقدمين والمتأخرين حين قال:

فما حاولت في أرض مقاما

ولا أزمعت عن أرض زوالا

على قلق كأن الريح تحتي

أوجهها جنوباً أو شمالا

قال الأدباء: لكأن المتنبي هو من اكتشف الطيران، قبل عباس بن فرناس!

يبدو أن طه حسين رأى عظمة المتنبي في كُتبه، والشروحات التي شرحت شعر المتنبي هي وفيرة وكثيرة، وقد ظفر شعره باهتمام النقاد والأدباء واللغويين، ما لم يظفر به شعر أحدٍ قط، وكيف لا،

وهو القائل: 

وما الدهر إلا من رواة قصائدي 

إذا قلت شِعرًا أصبح الدهر مُنشدا

وَدَعْ كلّ صَوْتٍ غَيرَ صَوْتي فإنّني

أنَا الطّائِرُ المَحْكِيُّ وَالآخَرُ الصّدَى

نعم يا أبا الطيب، صدقت والله، فما نردد اليوم إلا شعرك، وما نستقي إلا مما كتبت، ورددت، فنحن والله لسنا إلا مرددين، وكالصدى فقط.

وكذلك رأينا الإمام الكبير جار الله محمود الزمخشري في كتابه الكشاف(تفسير مفردات القرآن الكريم)، عندما استشهد بالشعر وصنف الشعراء في الأزمنة على طبقات معينة، لم يدخل المتنبي ضمن أي طبقة تماما؛ حتى لا يظلمه ويقارنه بغيره، فهو الوحيد الذي اختاره من أهل زمانه.

عزيزي طه حسين هل من الأصائل أن تقرأ لك شريكة حياتك كل سيرة المتنبي، حتى تنقد أصله وتبحث وتفتش عن فصله، وهي صابرة عليك، تقرأ لك الحروف، وُتنظم لك الرفوف، وتُبعدك عن الحتوف المُهلكة لك، بما كنت ستعجل به على رجليك، بما ملئت به كفيك، وحملت في ساعديك، وتوهنت به عن أُذنيك؛ لتأتِ في آخر المطاف وتقـول: إنما كنت عابثًا، أريد أن أُداعب المتنبي، أو أُداعب خصومه وأصدقاءه، ولست أدري ماذا صنع المتنبي بي، أو ماذا صنعت أنا بالمتنبي؟

يالهذه الحماقة!، ألم تكن لك استفاقة، كيف فكرت بتلك الطريقة، وأنت من عشيرة عريقة، وصاحب ثقافةٍ عميقة، وموسوعةٍ خليقة، وسيرةٍ شفيقةٍ لك بأن تكون أحد أعمدة الأدب الحديث...!

عذرًا طه حسين! 

لم أقصد توجيه الإهانة بصورة لاذعة لشخصك الكريم، ولكن لأسلوبك الذي عُرف عنك، وتشددك على شخصيات الأدب العربي، فتجاوزت عن ذلك كثير، ولكن حين وصل الأمر للمتنبي، لم أحب ذلك؛ لأني غيور على إرث هامةٍ كأبي الطيب المتنبي، فما أراه إلا هوية الأمة العربية، ثقافةً وفلسفة وحكمةً وأدب.


✍🏻/ تـامـر التـويـج

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الاستغناء عن الموروث الديني

الإنسانية والإسلام

كلمة رئيس اللجنة التحضيرية في حفل تخرج دفعة قادة الأعمال _ جامعة إب